الكلام في يوسف عليه السلام
وذكروا أيضاً أخذ يوسف عليه السلام أخاه وايحاشه أباه عليه السلام منه وأنه أقام مدة يقدر فيها على أن يعرف أباه خبره وهو يعلم ما يقاسى به من الوجد عليه فلم يفعل وليس بينه وبينه إلا عشر ليال وبإدخاله صواع الملك وعاء أخيه ولم يعلم بذلك سائر أخوته ثم أمر من هتف أيتها العير أنكم لسارقون وهم لم يسرقوا شيئاً وبقول الله تعالى " ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه " وبخدمته لفرعون وبقوله للذي كان معه في السجن " اذكرني عند ربك.
قال أبو محمد وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه ونحن نبين ذلك بحول الله تعالى وقوته فنقول وبالله تعالى نتأيد أما أخذه أخاه وايحاشه أباه منه فلا شك في أن ذلك ليرفق بأخيه وليعود أخوته إليه ولعلهم لو مضوا بأخيه لم يعودوا إليه وهم في مملكة أخرى وحيث لا طاعة ليوسف عليه السلام ولا لملك مصر هنالك وليكون ذلك سبباً لاجتماعه وجمع شمل جميعهم ولا سبيل إلى أن يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوتى العلم والمعرفة بالتأويل إلا أحسن الوجوه وليس من خالفنا نص بخلاف ما ذكرنا ولا يحل أن يظن بمسلم فاضل عقوق أبيه فكيف برسول الله صلى الله عليه وأما ظنهم أنه أقام مدة يقدر فيها على تعريف أبيه خبره ولم يفعل فهذا جهل شديد ممن ظن هذا لأن يعقوب في أرض كنعان من عمل فلسطين في قوم رحالين خصاصين في لسان آخر وطاعة أخرى ودين آخر وأمة أخرى كالذي بيننا اليوم وبين من يضافينا من بلاد النصارى كفاليش وغيرها أو كصحراء البربر فلم يكن عند يوسف عليه السلام علم بعد فراقه أباه بما فعل ولا حي هو أو ميت أكثر من وعد الله تعالى بأن ينبئهم بفعلهم به ولا وجد أحداً يثق به فيرسل إليه للاختلاف الذي ذكرنا وإنما يستسهل هذا اليوم من يرى أرض الشام ومصر لأمير واحد وملة واحدة ولساناً واحداً وأمة واحدة والطريق سابل والتجار ذاهبون وراجعون والرفاق سائرة ومقبلة والبرد ناهضة وراجعة فظن كل بيضاء شحمة ولم يكن الأمر حينئذ كذلك ولكن كما قدمنا ودليل ذلك أنه حين أمكنه لم يؤخره واستجلب أباه وأهله أجمعين عند ضرورة الناس إليه وانقيادهم له للجوع الذي كان عم الأرض وامتيارهم من عنده فانتظر وعد ربه تعالى الذي وعده حين ألقوه في الجب فأتوه ضارعين راغبين كما وعده تعالى في رؤياه قبل أن يأتوه ورب رئيس جليل شاهدنا من أبناء البشاكس والافرنج لو قدر على أن يستجلب أبويه لكان أشد الناس بداراً إلى ذلك ولكن الأمر تعذر عليهم تعذراً أخرجه عن الإمكان إلى الامتناع فهذا كان أمر يوسف عليه السلام وأما قول يوسف لأخوته أنكم لسارقون وهم لم يسرقوا الصواع بل هو الذي كان قد أدخله في وعاء أخيه دونهم فقد صدق عليه السلام لأنهم سرقوه من أبيه وباعوه ولم يقل عليه السلام أنكم سرقتم الصواع وإنما قال نفقد صواع الملك وهو في ذلك صادق لأنه كان غير واجد له فكان فاقداً له بلا شك وأما خدمته عليه السلام لفرعون فإنما خدمه تقية وفي حق لاستنقاذ الله تعالى بحسن تدبيره ولعل الملك أو بعض خواصه قد آمن به إلا أن خدمته له على كل حال حسنة وفعل خير وتوصل إلى الاجتماع بأبيه وإلى العدل وإلى حياة النفوس إذ لم يقدر على المغالبة ولا أمكنه غير ذلك ولا مرية في أن ذلك كان مباحاً في شريعة يوسف عليه السلام بخلاف شريعتنا قال الله تعالى " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً " وأما سجود أبويه فلم يكن ذلك محظوراً في شريعتهما بل كان فعلاً حسناً وتحقيق رؤياه الصادق من الله تعالى ولعل ذلك السجود كان تحية كسجود الملائكة لآدم عليه السلام إلا أن الذي لا شك فيه أنه لم يكن سجود عبادة ولا تذلل وإنما كان سجود كرامة فقط بلا شك وأما قوله عليه السلام للذي كان معه في السجن اذكرني عند ربك فما علمنا الرغبة في الانطلاق من السجن محظورة على أحد وليس في قوله ذلك دليل على أنه أغفل الدعاء إلى الله عز وجل لكنه رغب هذا الذي كان معه في السجن في فعل الخير وحضه عليه وهذا فرض من وجهين أحدهما وجوب السعي في كف الظلم عنه والثاني دعاؤه إلى الخير والحسنات وأما قوله تعالى " فأنساه الشيطان ذكر ربه " فالضمير الذي في أنساه وهو الهاء راجع إلى الفتى الذي كان معه في السجن أي أن الشيطان أنساه أن يذكر ربه أمر يوسف عليه السلام ويحتمل أيضاً أن يكون أنساه الشيطان ذكر الله تعالى ولو ذكر الله عز وجل لذكر حاجة يوسف عليه السلام وبرهان ذلك قول الله عز وجل " وادكر بعد أمة " فصح يقيناً أن المذكور بعد أمة هو الذي أنساه الشيطان ذكر ربه حتى تذكر وحتى لو صح أن الضمير من أنساه راجع إلى يوسف عليه السلام لما كان في ذلك نقص ولا ذنب إذ ما كان بالنسيان فلا يبعد عن الأنبياء وأما قوله " همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه " فليس كما ظن من لم يمعن النظر حتى قال من المتأخرين من قال أنه قعد منها مقعد الرجل من المرأة ومعاذ الله من هذا أن يظن برجل من صالحي المسلمين أو مستوريهم فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قيل أن هذا قد روى عن ابن عباس رضي الله عنه من طريق جيدة الإسناد قلنا نعم ولا حجة في قول أحد إلا فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط والوهم في تلك الرواية إنما هي بلا شك عمن دون ابن عباس أو لعل ابن عباس لم يقطع بذلك إذ إنما أخذه عمن لا يدري من هو ولا شك في أنه شيء سمعه فذكره لأنه رضي الله عنه لم يحضر ذلك ولا ذكره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحال أن يقطع ابن عباس بما لا علم له به لكن معنى الآية لا يعدو أحد وجهين أما أنه هم بالايقاع بها وضربها كما قال تعالى " وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه " وكما يقول القائل لقد هممت بك لكنه عليه السلام امتنع من ذلك ببرهان أراه الله إياه استغنى به عن ضربها وعلم أن الفرار أجدى عليه وأظهر لبراءته على ما ظهر بعد ذلك من حكم الشاهد بأمر قد من القميص والوجه الثاني أن الكلام عند قوله ولقد همت به ثم ابتدأ تعالى خبراً آخر فقال وهم بها لولا أن رأى برهان ربه وهذا ظاهر الآية بلا تكلف تأويل وبهذا نقول حدثنا أحمد بن محمد ابن عبد الله الطلمنكي حدثنا ابن عون الله أنبأنا إبراهيم بن أحمد ابن فراس حدثنا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري أنا إسحق ابن راهوية أنا المومل بن إسماعيل الحميري حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناتي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية " ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال ها يوسف عليه السلام قال له جبريل يا يوسف اذكر همك فقال يوسف " وما ابرئ نفسي أن النفس لأمارة بالسوء " فليس في هذا الحديث على معنى من المعاني تحقيق الهم بالفاحشة ولكنه فيه أنه هم بأمر ما وهذا حق كما قلنا فسقط هذا الاعتراض وصح الوجه الأول والثاني معاً إلا أن الهم بالفاحشة باطل مقطوع على كل حال وصح أن ذلك الهم ضرب سيدته وهي خيانة لسيده إذ هم بضرب امرأته وبرهان ربه هاهنا هو النبوة وعصمة الله عز وجل إياه ولولا البرهان لكان يهم بالفاحشة وهذا لا شك فيه ولعل من ينسب هذا إلى النبي المقدس يوسف ينزه نفسه الرذلة عن مثل هذا المقام فيهلك وقد خشى النبي صلى الله عليه وسلم الهلاك على من ظن به ذلك الظن إذ قال للأنصاريين حين لقيهما هذه صفية.
قال أبو محمد ومن الباطل الممتنع أن يظن ظان أن يوسف عليه السلام هم بالزنا وهو يسمع قول الله تعالى " كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء " فنسأل من خالفنا عن الهم بالزنا بسوء هو أم غير سوء فلا بد أنه سوء ولو قال أنه ليس بسوء لعاند الإجماع فإذ هو سوء وقد صرف عنه السوء فقد صرف عنه الهم بيقين وأيضاً فإنها قال ت " ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً " وأنكر هو ذلك فشهد الصادق المصدق " إن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين " فصح أنها كذبت بنص القرآن وإذ كذبت بنص القرآن فما أراد بها قط سوء فما هم بالزنا قط ولو أراد بها الزنا لكانت من الصادقين وهذا بين جداً وكذلك قوله تعالى عنه أنه قال " وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن " فصح عنه أنه قط لم يصب إليها وبالله تعالى التوفيق تم الكلام في يوسف عليه السلام.
الكلام في موسى عليه السلام وأمه
قال أبو محمد ذكروا قول الله تعالى " وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها " فمعناه فارغاً من الهم بموسى جملة لأن الله عز وجل قد وعدها برده إليها إذ قال لها تعالى " إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " فمن الباطل المحض أن يكون الله تعالى ضمن لها رده إليها ثم يصبح قلبها مشغولاً لا بالهم بأمره هذا ما لا يظن بذي عقل أصلاً وإنما معنى قوله تعالى إن كادت لتبدي به أي سروراً بما أتاه الله عز وجل من الفضل وقولها لأخته قصيه إنما هو لترى أخته كيفية قدرة الله تعالى في تخليصه من يدي فرعون عدوه بعد وقوعه فيهما وليتم بها ما وعدها الله تعالى من رده إليها فبعثت أخته لترده بالوحي وذكروا قول الله تعالى عن موسى عليه السلام فأخذ برأس أخيه يجره إليه " قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي " قال وا وهذه معصية أن يأخذ بلحية أخيه وشعره وهو نبي مثله وأسن منه ولا ذنب له.
قال أبو محمد وهذا ليس كما ظنوا وهو خارج على وجهين أحدهما أن أخذه برأس أخيه ليقبل بوجهه عليه ويسمع عتابه له إذ تأخر عن اتباعه إذ رآهم ضلوا ولم يأخذ بشعر أخيه قط إذ ليس ذلك في الآية أصلاً ومن زاد ذلك فيها فقد كذب على الله تعالى لكن هارون عليه السلام خشى بادرة من موسى عليه السلام وسطوة إذ رآه قد اشتد غضبه فأراد توقيفه بهذا الكلام عما تخوفه منه وليس في هذه الآية ما يوجب غير ما قلنا ولا أنه مد يده إلى أخيه أصلاً وبالله تعالى التوفيق والثاني أن يكون هارون عليه السلام قد يكون استحق في نظر موسى عليه السلام النكير لتأخيره عن لحاقه إذ رآهم ضلوا فأخذ برأسه منكراً عليه ولو كان هذا لكان إنما فعله مومى عليه السلام غضباً لربه عز وجل وقاصداً بذلك رضاء الله تعالى ولسنا نبعد هذا من الأنبياء علهم السلام وإنما نبعد القصد إلى المعصية وهم يعلمون أنها معصية وهذا هو معنى ما ذكره الله تعالى عن إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم إذ قال " والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين " وقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " إنما الخطيئة المذكورة والذنوب المغفورة ما وقع بنسيان أو بقصد إلى الله تعالى إرادة الخير فلم يوافق رضا الله عز وجل بذلك فقط وذكروا قول موسى عليه السلام للخضر عليه السلام " أقتلت نفساً زكية بغير نفس " فأنكر موسى عليه السلام الشيء وهو لا يعلمه وقد كان أخذ عليه العهد أن لا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكراً فهذا أيضاً لا حجة لهم فيه لأن ذلك كان على سبيل النسيان وقد بين موسى عليه السلام ذلك بقوله " لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً " فرغب إليه أنه لا يؤاخذه بنسيانه ومؤاخذة الخضر له بالنسيان دليل على صحة ما قلنا من أنهم عليهم السلام مؤاخذون بالنسيان وبما قصدوا به الله عز وجل فلم يصادفوا بذلك مراد الله عز وجل وتكلم موسى عليه السلام على ظاهر الأمر وقدر أن الغلام زكي إذ لم يعلم له ذنباً وكان عند الخضر العلم الجلى بكفر ذلك الغلام واستحقاقه القتل فقصد موسى عليه السلام لكلامه في ذلك وجه الله تعالى والرحمة وإنكار ما لم يعلم وجهه وذكروا قول موسى عليه السلام " فعلتها إذاً وانا من الضالين " فقول صحيح وهو حاله قبل النبوة فإنه كان ضالاً عما اهتدى له بعد النبوة وضلال الغيب عن العلم كما تقول أضللت بعيري لا ضلال القصد إلى الإثم وهكذا قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم " ووجدك ضالاً فهدى " أي ضالاً عن المعرفة وبالله تعالى التوفيق وذكروا قول الله عز وجل عن بني إسرائيل " فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا ارنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم " قالوا وموسى قد سأل ربه مثل ذلك فقال " رب أرني أنظر إليك قال لن تراني " قال وا فقد سأل موسى عليه السلام أمراً عوقب سائلوه قبله.
قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنه خارج على وجهين أحدهما أن موسى عليه السلام سأل ذلك قبل سؤال بني إسرائيل رؤية الله تعالى وقبل أن يعلم أن سؤال ذلك لا يجوز فهذا لا مكروه فيه لأنه سأل فضيلة عظيمة أراد بها علو المنزلة عند ربه تعالى والثاني أن بني إسرائيل سألوا ذلك متعنتين وشكاكا في الله عز وجل وموسى سأل ذلك على الوجه الحسن الذي ذكرنا آنفاً.
الكلام على يونس عليه السلام
قال أبو محمد وذكروا أمر يونس عليه السلام وقول الله تعالى عنه " وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " وقوله تعالى " فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون " وقوله لنبيه عليه السلام " فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم " وقوله تعالى " فالتقمه الحوت وهو مليم " قالوا ولا ذنب أعظم من المغاضبة لله عز وجل ومن أكبر ذنباً ممن ظن أن الله لا يقدر عليه وقد أخبر الله تعالى أن استحق الذم لولا أن تداركه نعمة الله عز وجل وأنه استحق الملامة وأنه أقر على نفسه أنه كان من الظالمين ونهى الله تعالى نبيه أن يكون مثله.
قال أبو محمد هذا كله لا حجة لهم فيه بل هو حجة لنا على صحة قولنا والحمد لله رب العالمين أما أخبار الله تعالى أن يونس ذهب مغاضباً فلم يغاضب ربه قط ولا قال الله تعالى أنه غاضب ربه فمن زاد هذه الزيادة كان قائلاً على الله الكذب وزائداً في القرآن ما ليس فيه هذا لا يحل ولا يجوز أن يظن بمن له أدنى مسكة من عقل أنه يغاضب ربه تعالى فكيف أن يفعل ذلك نبياً من الأنبياء فعلمنا يقيناً أنه إنما غاضب قومه ولم يوافق ذلك مراد الله عز وجل فعوقب بذلك وأن كان يونس عليه السلام لم يقصد بذلك إلا رضاء الله عز وجل وأما قوله تعالى " فظن أن لن نقدر عليه " فليس على ما ظنوه من الظن السخيف الذي لا يجوز أن يظن بضعيفة من النساء أو بضعيف من الرجال إلا أن يكون قد بلغ الغاية من الجهل فكيف بنبي مفضل على الناس في العلم ومن المحال المتيقن أن يكون نبي يظن أن الله تعالى الذي أرسله بدينه لا يقدر عليه وهو يرى أن آدمياً مثله يقدر عليه ولا شك في أن من نسب هذا للنبي صلى الله عليه وسلم الفاضل فإنه يشتد غضبه لو نسب ذلك إليه أو إلى ابنه فكيف إلى يونس عليه السلام الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفضلوني على يونس بن متى فقد بطل ظنهم بلا شك وصح أن معنى قوله " فظن أن لن نقدر عليه " أي لن نضيق عليه كما قال تعالى " وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ " أي ضيق عليه فظن يونس عليه السلام أن الله تعالى لا يضيق عليه في مغاضبته لقومه إذ ظن أنه محسن في فعله ذلك وإنما نهى الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم عن أن يكون كصاحب الحوت فنعم نهاه الله عز وجل عن مغضبته قومه وأمره بالصبر على أذاهم وبالمطاولة لهم وأما قول الله تعالى أنه استحق الذم والملامة لولا النعمة التي تداركه بها للبث معاقباً في بطن الحوت فهذا نفس ما قلناه من ان الأنبياء عليهم السلام يؤاخذون في الدنيا على ما فعلوه مما يظنونه خيراً وقربة إلى الله عز وجل إذ لم يوافق مراد ربهم وعلى هذا الوجه أقر على نفسه بأنه كان من الظالمين والظلم وضع الشيء في غير موضعه فلما وضع النبي صلى الله عليه وسلم المغاضبة في غير موضعها اعترف في ذلك بالظلم لا على أنه قصده وهو يدري أنه ظلم انقضى الكلام في يونس عليه السلام وبالله تعالى التوفيق.
وذكروا أيضاً قول الله تعالى حاكياً عن داود عليه السلام " وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان " إلى قوله فغفرنا له ذلك.
قال أبو محمد وهذا قول صادق صحيح لا يدل على شيء مما قاله المستهزؤن الكاذبون المتعلقون بخرافات ولدها اليهود وإنما كان ذلك الخصم قوماً من بني آدم بلا شك مختصمين في نعاج من الغنم على الحقيقة بينهم بغى أحدهما على الآخر على نص الآية ومن قال أنهم كانوا ملائكة معرضين بأمر النساء فقد كذب على الله عز وجل وقوله ما لم يقل وزاد في القرآن ما ليس فيه وكذب الله عز وجل وأقر على نفسه الخبيثة أنه كذب الملائكة لأن الله تعالى يقول " هل أتاك نبأ الخصم " فقال هو لم يكونوا قط خصمين ولا بغي بعضهم على بعض ولا كان قط لأحدهما تسع وتسعون نعجة ولا كان للآخر نعجة واحدة ولا قال له أكفلنيها فاعجبوا لم يقحمون فيه أهل الباطل أنفسهم ونعوذ بالله من الخذلان ثم كل ذلك بلا دليل بل الدعوى المجردة وتالله أن كل أمرئ منا ليصون نفسه وجاره المستور عن أن يتعشق امرأة جاره ثم يعرض زوجها للقتل عمداً ليتزوجها وعن أن يترك صلاته لطائر يراه هذه أفعال السفهاء المتكهوكين الفساق المتمردين لأفعال أهل البر والتقوى فكيف برسول الله داود صلى الله عليه وسلم الذي أوحي إليه كتابه وأجرى على لسانه كلامه لقد نزهه الله عز وجل عن أن يمر مثل هذا الفحش بباله فكيف أن يستضيف إلى أفعاله وأما استغفاره وخروره ساجداً ومغفرة الله تعالى له فالأنبياء عليهم السلام أولى الناس بهذه الأفعال الكريمة والاستغفار فعل خير لا ينكر من ملك ولا من نبي ولا من مذنب ولا من غير مذنب فالنبي يستغفر الله لمذنبي أهل الأرض والملائكة كما قال الله تعالى " ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم " وأما قوله تعالى عن داود عليه السلام " وظن داود إنما فتناه " وقوله تعالى " فغفرنا له ذلك " فقد ظن داود عليه السلام أن يكون ما أتاه الله عز وجل من سعة الملك العظيم فتنة فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في أن يثبت الله قلبه على دينه فأستغفر الله تعالى من هذا الظن فغفر الله تعالى له هذا الظن إذ لم يكن ما أتاه الله تعالى من ذلك فتنة.
الكلام في سليمان عليه السلام
وذكروا قول الله عز وجل عن سليمان عليه السلام " ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب ".
قال أبو محمد ولا حجة لهم في هذا إذ معنى قوله تعالى فتنا سليمان أي أتيناه من الملك ما أختبرنا به طاعته كما قال تعالى مصدقاً لموسى عليه السلام في قوله تعالى " إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " إن من الفتنة من يهدي الله من يشاء و قال تعالى " ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين " فهذه الفتنة هي الاختبار حتى يظهر المهتدي من الضال فهذه فتنة الله تعالى لسليمان إنما هي اختباره حتى ظهر فضله فقط وما عدا هذا فخرافات ولدها زنادقة اليهود وأشباههم وأما الجسد الملقى على كرسيه فقد أصاب الله تعالى به ما أراد نؤمن بهذا كما هو ونقول صدق الله عز وجل كل من عند الله ربنا ولو جاء نص صحيح في القرآن أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير هذا الجسد ما هو لقلنا به فإذا لم يأت بتفسيره ما هو نص ولا خبر صحيح فلا يحل لأحد القول بالظن الذي هو أكذب الحديث في ذلك فيكون كاذباً على الله عز وجل إلا أننا لا نشك البتة في بطلان قول من قال أنه كان جنيا تصور بصورته بل نقطع على أنه كذب والله تعالى لا يهتك ستر رسوله صلى الله عليه وسلم هذا الهتك وكذلك نبعد قول من قال أنه كان ولداً له أرسله إلى السحاب ليربيه فسليمان عليه السلام كان أعلم من أن يربي ابنه بغير ما طبع الله عز وجل بنية البشر عليه من اللبن والطعام وهذه كلها خرافات موضوعة مكذوبة لم يصح اسنادها قط وذكروا أيضاً قول الله عز وجل عن سليمان عليه السلام " إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق " وتأولوا ذلك على ما قد نزه الله عنه من له أدنى مسكة من عقل من أهل زماننا وغيره فكيف بنبي معصوم مفضل في أنه قتل الخيل إذ اشتغل بها عن الصلاة.
قال أبو محمد وهذه خرافة موضوعة مكذوبة سخيفة باردة قد جمعت أفانين من القول والظاهر أنها من اختراع زنديق بلا شك لأن فيها معاقبة خيل لا ذنب لها والتمثيل بها واتلاف مال منتفع به بلا معنى ونسبة تضييع الصلاة إلى نبي مرسل ثم يعاقب الخيل على ذنبه لا على ذنبها وهذا أمر لا يستجيزه صبي ابن سبع سنين فكيف بنبي مرسل ومعنى هذه الآية ظاهر بين وهو أنه عليه السلام أخبر أنه أحب حب الخير من أجل ذكر ربه حتى توارت الشمس بالحجاب أو حتى توارت تلك الصافنات الجياد بحجابها ثم أمر بردها فطفق مسحا بسوقها وأعناقها بيده براً بها وإكراماً لها هذا هو ظاهر الآية الذي لا يحتمل غيره وليس فيها إشارة أصلاً إلى ما ذكروه من قتل الخيل وتعطيل الصلاة وكل هذا قد قال ه ثقات المسلمين فكيف ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا أيضاً الحديث الثابت من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سليمان عليه السلام قال لطوفن الليلة على كذا وكذا امرأة كل امرأة منهن تلد فارساً يقاتل في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله.
قال أبو محمد وهذا ما لاحجة لهم فيه فإن من قصد تكثير المؤمنين المجاهدين في سبيل الله عز وجل فقد أحسن ولا يجوز أن يظن به أنه يجهل أن ذلك لا يكون إلا أن يشاء الله عز وجل وقد جاء في نص الحديث المذكور أنه إنما ترك إن شاء الله نسياناً فأوخذ بالنسيان في ذلك وقد قصد الخير وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين تم الكلام في سليمان عليه الصلاة والسلام.
فصل وذكروا قوله تعالى " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ".
قال أبوم محمد وهذا ما لاحجة لهم فيه لأنه ليس في نص الآية ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا المذكور كان نبياً وقد يكون أنباء الله تعالى لهذا المذكور آياته أنه أرسل إليه رسولاً بآياته كما فعل بفرعون وغيره فأنسلخ منها بالتكذيب فكان من الغاوين وإذا صح أن نبياً يعصى الله عز وجل تعمداً فمن المحال أن يعاقبه الله تعالى على ما لا يفعل ولا عقوبة أعظم من الحط عن النبوة ولا يجوز أن يعاقب بذلك نبي البتة لأنه لا يكون منه ما يستحق به هذا العقاب وبالله تعالى التوفيق فصح يقيناً أن هذا المنسلخ لم يكن قط نبياً وذكروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ما من أحد إلا من ألم بذنب أو كاد إلا يحيى بن زكريا أو كلاماً هذا معناه.
قال أبو محمد وهذا صحيح وليس خلافاً لقولنا إذ قد بينا أن الأنبياء عليهم السلام يقع منهم النسيان وقصد الشيء يظنونه قربة إلى الله تعالى فأخبر عليه السلام أنه لم ينجح من هذا أحد إلا يحيى ابن زكريا عليهما السلام فيقوم من هذا أن يحيى لم ينس شيئاً واجباً عليه قط ولا فعل إلا ما وافق فيه مراد ربه عز وجل.